فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزازَ نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فلقي عند العقبة رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرًا، وهم ستة نفر: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث وهو ابن عفراء، ورافع بن مالك العجلاني، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنتم؟ قالوا: نفرٌ من الخزرج، قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم: قال: أفلا تجلسون حتى أكلّمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرضَ عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.
قالوا: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهودًا كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وهم كانوا أهل أوثان وشرك، وكانوا إذا كان منهم شيء قالوا: إن نبيا الآن مبعوثٌ قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرَم، فلمّا كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنه النبي الذي تَوعَّدَكُم به يهود، فلا يسبقُنكَّم إليه، فأجابوه وصدقوه وأسلموا، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك.
ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا به صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا المدينة ذَكَرُوا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دارٌ من دُور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا وهم: أسعد بن زرارة، وعوف، ومعاذ ابنا عفراء، ورافع بن مالك بن العجلان، وذكوان بن عبد القيس، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، وعباس بن عبادة، وعقبة بن عامر، وقطبة بن عامر، وهؤلاء خزرجيّون وأبو الهيثم بن التيهان، وعويمر بن ساعدة من الأوس، فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، على أن لا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا، إلى آخر الآية فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئًا من ذلك فأُخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفارةٌ له، وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم، قال: وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب.
قال: فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويُفقهَهم في الدين، وكان مُصعب يُسمى بالمدينة المقرئ، وكان منزله على أسعد بن زرارة، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطًا، من حوائط بني ظفر، فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حُضير: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءَنا فازجرهما، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي ولولا ذاك لكفيتكه، وكان سعد بن معاذ وأُسَيْد بن حضير سَيِّدَيْ قومِهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في الحائط، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فأصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلسْ أكلمه قال: فوقف عليهما متشتّمًا فقال: ما جاء بكم إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أوَ تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كُفّ عنك ما تكره، قال: أنصفتَ ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقالا والله لَعَرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به، في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسلُ وتُطهرُ ثوبَيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ثم قام وركع ركعتين ثم قال لهما: إنَّ ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمّتُ الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسًا وقد نهيتُهما فقالا فافعل ما أحببت، وقد حُدثتُ أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زُرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك فقام سعد مغضبًا مبادرًا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدًا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما مَتشتمًا ثم قال لأسعد بن زرارة: لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد قومه، إن يتبعك لم يخالفك منهم أحد، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرًا ورغبتَ فيه قبلتَه، وإن كرهتَه عَزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن قال فعرفنا والله في وجهه الإسلام: قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا تغتسل وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أُسَيْد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبةً قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجلُ ولا امرأةٌ إلا مسلم أو مسلمة، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر، وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدرٌ وأُحد والخندق.
قالوا: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية.
قال كعب بن مالك- وكان قد شهد ذلك- فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه وكنا نكتم عمن معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه، وقلنا له: يا أبا جابر أنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عمّا أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة، وكان نقيبا، فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا، حتى اجتمعنا في الشِّعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع إحدى نساء بني سلمة، فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج- وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها- إن محمدًا صلى الله عليه وسلم منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا وهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده، وأنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عزٍ ومنعةٍ.
قال: فقلنا قد سمعنا ما قلت: فتكلمْ يا رسول الله وخذْ لنفسك ولربِّك ما شئت.
قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم، قال: فأخذ البراء بن مَعْرُور بِيدِهِ ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أُزُرَنَا فبايعنا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.
قال: فاعترض القول- والبراءَ يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا يعني العهود، وإنا قاطعوها فهل عسيتَ إن فعلنا نحن ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، فتبسّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: الدم الدم والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أحاربُ من حاربتم وأسالم من سالمتم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم» فأخرجوا اثني عشر نقيبًا تسعةً من الخزرج وثلاثةً من الأوس.
قال عاصم بن عمرو بن قتادة: إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عُبادة بن نَضْلة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون علاما تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة واشرافكم قتلى أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خِزْيٌ في الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتُموه إليه من تهلكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة.
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفيَّنا؟ قال: «الجنة» قال: ابسطْ يَدكَ فبسطَ يده فبايعوه، وأول من ضرب على يده البراء بن مَعْرُور ثم تتابع القوم، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمعتُه قط: يا أهل الجباجب هل لكم في مُذَمَّمٍ والصُّباة قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا عدو الله، هذا أزبّ العقبة، اسمع أي عدو الله أما والله لأفرغنّ لك»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارفضوا إلى رحالكم».
فقال العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدًا على أهل منًى بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نُؤْمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم.
قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جِلّةُ قريش حتى جاؤونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم قال: فانبعث مَنْ هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله: ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا، ولم يعلموا، وبعضُنا ينظر إلى بعض، وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدان، قال فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا يا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش، قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي وقال: والله لتنتعلنهما قال يقول أبو جابر رضي الله عنه: مه والله أحْفَظْتَ الفتى فاردد إليه نعليه، قال: لا أردهما فألٌ- والله- صالح والله لئن صدق الفأل لأسلبنه.
قال: ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شدّدوا العقد، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون فيها» فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار.
فأول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ثم عامر بن ربيعة ثم عبد الله بن جحش ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرْسالا إلى المدينة فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرَجَها بالإسلام، وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا}:

.قال الفخر:

المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم، لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار، والمصير منهم إلى حفرتها، فبيّن تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة، وقد قربوا من الوقوع فيها.
قالت المعتزلة: ومعنى ذلك أنه تعالى لطف بهم بالرسول عليه السلام وسائر ألطافه حتى آمنوا قال أصحابنا: جميع الألطاف مشترك فيه بين المؤمن والكافر، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار، والله تعالى حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار، فدل هذا على أن خالق أفعال العباد هو الله سبحانه وتعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

أرى أن شَفا حفرة النَّار هنا تمثيل لحالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك والتَّفاني الَّذي عبَّر عنه زهير بقوله:
تفانَوا ودَقُّوا بينَهم عِطْر مَنْشَم

بحال قوم بلغ بهم المشي إلى شفا حفير من النَّار كالأُخدُود فليس بينهم وبين الهلاك السَّريع التَّام إلا خطوة قصيرة، واختيار الحالة المشبَّه بها هنا لأن النَّار أشدّ المهلكات إهلاكًا، وأسرعُها، وهذا هو المناسب في حمل الآية ليكون الامتنان بنعمتين محسوستين هما: نعمة الأخوة بعد العداوة، ونعمة السلامة بعد الخطر، كما قال أبو الطيب:
نَجاة من البأساءِ بعدَ وقوع ** والإنقاذ من حالتين شنيعتين.

وقال جمهور المفسرين: أراد نار جهنَّم.
وعلى قولهم هذا يكون قوله: {شفا حفرة} مستعارًا للاقتراب استعارة المحسوس للمعقول.
والنَّارُ حقيقة، ويبعد هذا المحمل قوله تعالى: {حفرة} إذ ليست جهنّم حفرة بل هي عالم عظيم للعذاب.
وورد في الحديث «فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان» لكن ذلك رؤيا جاءت على وجه التمثيل وإلا فهي لا يحيط بها النّظر.
ويكون الامتنان على هذا امتنانًا عليهم بالإيمان بعد الكفر وهم ليقينهم بدخول الكفرة النَّارَ علموا أنَّهم كانوا على شفاها.
وقيل: أراد نار الحرب وهو بعيد جدًا لأنّ نار الحرب لا توقد في حُفرة بل توقد في العلياء ليراها من كان بعيدًا كما قال الحارث:
وبعينيك أوقدَتْ هند النَّارَ ** عِشاء تُلْوي بها العَليَاء

فتنورتَ نَارها من بعيد ** بخَزَازَى أيَّان منك الصِلاء

ولأنهم كانوا ملابسين لها ولم يكونوا على مقاربتها.
والضّمير في {منها} للنَّار على التَّقادير الثَّلاثة.
ويجوز على التَّقدير الأول أن يكون لشَفا حفرة وعاد عليه بالتأنيث لاكتسابه التَّأنيث من المضاف إليه كقول الأعشى:
وتَشْرَقَ بالقَوْلِ الذي قد أذعتَه ** كما شَرِقَتْ صَدْرُ القناة من الدم